د.هبة رءوف عزت
أستاذة جامعية – مصر
«صن النفس واحملها على ما يزينها.. تعش سالما والقول فيك جميل – علي بن أبي طالب “رضي الله عنه”
صنت نفسي عما يدنس نفسي – البحتري »
شهادة الإنسان على نفسه الحاملة لفطرة العبادة وإشهاده على وحدانية الله قبل الخلق في هذه الحياة الدنيا مقترنة في التصور الاسلامي بنهاية الإنسان ومآله، فالجمع بين ابتداء خلق الإنسان من جهة، والرجعى من جهة أخرى ميزان الشرع ومدار الحياة والإحياء.
{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 22)
والفطرة تقترن في التصور الإسلامي بالوحدانية والدين، فالدين فطرة والشهادة الأولى التي أخذها الله من ذرية بني آدم مغروسة فيها، لكن الوعي بها يتأثر بالبيئة والتنشئة والمجتمع، وهنا تصبح الفطرة قرينة البراءة الأولى للنفس عند الميلاد في مقابل فكرة الخطيئة الأولى في الخطاب المسيحي تاريخيا من جهة، وقرينة توحيد الله أصلا في فطرة الإنسان بشهادة التوحيد التي كانت في الأزل.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (الروم: 30)
ولا يناقض هذا أن الإنسان يخطئ، فالخطأ لا يناقض الفطرة، لكن الخطيئة تناقضها – وبينهما فارق. ومن هنا: «لا يسرق السارق وهو مؤمن ولا يزني الزاني وهو مؤمن..» كما في الحديث.
كما تلفتنا الآيات القرآنية لاقتران الفطرة الإنسانية بخلق السموات والأرض، فالله هو الفاطر، وسنن الأنفس والآفاق تتقاطع، فحفظ الإنسان لفطرته حفظ لناموس الكون وفطرة السموات والأرض، ومخالفة الفطرة تستوجب سنة الدفع، وإلا فسدتا.
ونجد المعنى في الربط بين ثلاث آيات في القرآن:
آية {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة: 251)، وآية {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 79)، وآية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ} (الأنبياء: 22).
وتبدو الفطرة التي فطر الله الناس عليها مصدرا للهداية وبوصلة للحق أودعها الله في قلوب العباد:
{إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (الزخرف: 27).
{قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالأرض الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } (الأنبياء: 56) بل تبدو مستعصية – حين يكون الإيمان هو النور الذي يحمل الإنسان في مسيرة الحياة – على أن تتقبل البغي أو ترضى بالطغيان، فنتأمل قوله تعالى: {قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا } (طه: 72).
{يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ } (هود: 51).
{فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الإسراء: 51)
والفطرة مكون من رباعية مفاهيمية للأمانة والخلافة الإنسانية التي يحاسب الله عنها العباد يوم القيامة والتي يكشفها النظر في كتاب الله، تلك الرباعية هي: الفطرة، والعقل، والوحي، ثم السنن التي يدركها الإنسان بالسير والنظر {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (البقرة: 138).
فقولـه تعالى: صبغة اللـه بعد قولـه: قل بل ملة إبراهيم حنيفا كقولـه: فطرة اللـه بعد قولـه: فأقم وجهك للدين حنيفا، وقولـه تعالى: ومن أحسن من اللـه صبغة كقولـه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4).
ويرى الباحث المغربي عثمان مصباح الفرق بين الصبغة والفطرة كما يبدو من سياقهما في القرآن بأن صبغة اللـه تحصل حينما يختار الإنسان لنفسه أن يكون على الفطرة، أو كما قيل: أن يكون عبدا للـه اختيارا كما هو عبد للـه اضطرارا، واللـه تعالى أعلم.
ومن معنى الفطرة في قولـه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا } (الأعراف: 172)، إشهاد الله للعباد جاء على أنفسهم أولا بمعنى إقرارهم بأمانة أنفسهم، ثم إشهادهم على الربوبية وبعد ذلك كان التكليف بالأمانة والقيام بالشريعة والمنهاج.
النفس.. أنفس
إذا كانت هذه هي صلة الفطرة بالدين في القرآن، فأين موضع الفطرة في التكوين الإنساني؟ أين محلها ومستقرها؟
لا شك أن موضعها النفس الإنسانية التي أراد الله لها أن تكون بين الفجور والتقوى، تتراوح بين الطاعة والمعصية والتوبة، وتسعى وتجاهد في الله كي يهديها سبل السلام، وتتبع الشرعة والمنهاج كي تجد الطمأنينة الداخلية، وكي تحقق ميزان الحق وتتناغم مع ناموس الكون.
وأنواع النفوس في القرآن:
1-النفس المطمئنة: هي التي عرفت ربها، واطمأنت إليه, اطمأنت إلى أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى, اطمأنت إلى وعده ووعيده، اطمأنت إلى جنته، اطمأنت إلى وحدانيته، وإلى أنه لا إله إلا هو.
2- النفس الزكية والمقصود بها محض النفس البشرية، أو النفس المتطهرة الطائعة، قال تعالى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} (سورة الكهف: 74)، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (سورة الشمس: 7-10).
3- النفس اللوامة، قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)}(سورة القيامة: 1-2).
هذا الذي كلما تكلم كلمة أو قام بعمل راجعه، وحاسب نفسه عليه..
فيجب أن يكون المؤمن لواما، يسأل نفسه دائما، يحاسبها في الدنيا حسابا عسيرا، حتى يكون حسابها يوم القيامة يسيرا.
4-نفس حاسدة- قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم } (سورة البقرة: 109) النفس البعيدة عن الله عز وجل تحسد الناس.
5-هناك نفس آثمة، تقع فيما حرم الله, قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ } (سورة النساء: 111).
6-ونفس أمارة بالسوء- قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (سورة يوسف: 53) فالنفس قد تكون ظالمة، ومخادعة، ومستكبرة عاتية، وبخيلة شحيحة. وهي كلها وردت في آيات الكتاب لو دققنا وتدبرنا.
والحق أنه يمكن النظر للنفس الإنسانية بأنها تجمع هذه الخصال بدرجات متفاوتة، فهي ليست تقسيمات لأنفس البشر، بل هي تقسيمات في داخل النفس الإنسانية الواحدة.
وبناء على ذلك فزكاة النفس وطيبها هو الفطرة التي فطر الناس عليها كما في حديث «كل مولود يولد على الفطرة».. وهي الضمير اليقظ للإنسان يرشده للخير والحق إن انقطعت به أسباب العلم أو موارد التوجيه، والنفس الأمارة بالسوء جزء من النفس الإنسانية لأن (كل ابن آدم خطاء)، ولذلك كان التشريع والمنهج والرسالة تقويما لتلك النفس ودعوة استقامة لها، والنفس اللوامة هي التي تراجع الإنسان وتفتح له باب التوبة، وهو منطلق معاني التوبة والعفو والفضل بين الناس في الأخلاق والتشريع، والنفس المطمئنة هي التي تتدرج في معراج العرفان وعلى ذلك يقوم باب التزكية والتقرب والتجرد. وكل الأوصاف السلبية مهمة في حركة الإنسان لو ناله منها النذر اليسير، فالنذر اليسير من الحسد بمعنى التنافس يدعو لطلب المال والمكانة، وهو وقود الطموح والعمل، ومنه الحسد الممدوح في حديث: «لا حسد إلا في اثنتين» عن طلب العلم للتعليم وطلب المال للإنفاق في سبيل الله-وهو الغبطة.
فقد زين الله للناس حب الشهوات، لأن في ذلك دافعية للسعي وطلب الرزق والنسل والعمران. لكن غلبة الشهوة وغياب الميزان هو الذي يدفع الناس للبغي والظلم والتطاول.
وحتى النفس اللوامة لو أفرطت في اللوم وخرجت عن حدها تجول ذلك لمرض الوسواس القهري الذي يعجز عن العمل ويسبب الإخفاق.
الاعتدال والعدل إذا واستقامة النفس في مستوياتها ومراتبها هو الذي يحقق للإنسان الحياة الطيبة.. وتكون بذلك الفطرة التي خلقه الله عليها بكل مكوناتها..على صراط مستقيم.
كيف إذا نربط بين ذلك ومقاصد التشريع؟
الفطرة والمقاصد
غلب على فقهاء المقاصد بدءا من القفال الشاشي في محاسن الشريعة ميلهم لتعليل الشريعة وانبنائها على المقاصد والمصالح، بما في ذلك العبادات، وعلى ذلك فإن الشريعة غاياتها ومقاصدها يعبر عنها بالكليات الشرعية الخمس الشهيرة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، التي توالت كل الأمم والملل على تقريرها وتثبيتها.
لكن غاية قولنا هنا هو بيان أن لذلك رؤية مقابلة ومكملة، وهي أن تلك المقاصد وكل أحكام الشرع ومحاسن الأخلاق بل والعبادات غايتها حفظ فطرة الإنسان التي فطره الله عليها..وصونها وحمايتها من الطمس والتبديل.
ولذلك يمكننا صياغة حجتنا على النحو التالي: إن بذل الحياة قد يكون ثمنا لحفظ الفطرة، فيكون الموت ثمنا لحفظ النفس، وهذا معنى دقيق التفت له إمام الحرمين الجويني حين قال:
«ورب شيء يتناهى قبحه في مورد الشرع، فلا تبيحه الضرورة أيضا؛ بل يوجب الشرع الانقياد للتهلكة؛ والانكفاف عنه؛ كالقتل والزنى في حق المجبر عليهما».
ذلك أن فعل الكبائر طمس للفطرة، والشريعة خادمة للفطرة حافظة لها لأنها بها شهد العباد لله بالوحدانية قبل خلقهم في الدنيا، وبها حمل الإنسان الأمانة، وعليه فتلف الجسد صونا للفطرة أهون من تلف النفس وطمس الفطرة، وما أحكام حفظ العقل والمال والعرض إلا توابع لحفظ النفس بالمعنى الذي بسطناه، وحفظ العقل الذي يسكن في القلب والفطرة التي تسكن في النفس.
وفي المعاصرين يقول الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية: «مقاصد التشريع العامة: هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها».
ويقول الشيخ الطاهر بن عاشور: «وأعظم ما اشتمل عليه خلق الإنسان خلق قبول للتمدن الذي أعظمه وضع الشرائع له» وقد قام الشيخ بتعريف التشريع خارج محض التقنين، فالتشريع: «هو ما رعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد وترجيحها مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الاجتماعية لحفظ نظام العالم وإصلاح المجتمع».
«إذ الحقيقة وما عاضدها من الاعتبار هو الذي تقبله الفطرة البشرية على اختلاف أصناف البشر». وفي كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام يقول الشيخ: وعلى ذلك يتحدث الشيخ عن الجامعة الفطرية فيقول «والإنسانية هي فطرة البشر»، وهو بذلك يؤسس على قول ابن القيم في إعلام الموقعين: «الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور ومن الرحمة إلى ضدها ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث ليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه».
.. والحق أن فهم هذه الرابطة بين مقاصد التشريع والفطرة هو الذي تتأسس عليه عالمية الدعوة الإسلامية، فهي لا تدعو إلى منهج حياة يختلف حوله البشر، بل هي تردهم للفطرة التي فطرهم الله عليها والتي يؤدي اتباعها إلى استقامة حياتهم وتحقيق مصالحهم.. وسعادة نفوسهم.
ولا يمكن دون هذا الفهم تحقيق صيانة الفطرة.. وحفظ الأنفس.. وإقامة الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
– الوعي الإسلامي