د. سلمان بن فهد العودة
كانت لي جارة في طفولتي ، بنت أصغر مني بثلاث سنوات ، نلعب معاً ، ونقضي معظم وقتنا معاً ، كنت أشعر وكأنها واحدة من أخواتي ، لاهتمام والدي بها ، حين اشترى لي أبي لباس العيد لم ينس أن يشتري لها ، وحين اشترى لي عروسة جاءت تبكي إلى والدي فأخذ يربّت على كتفها ، ثم اشترى لها عروسة .
كانت عروستها أجمل من عروستي مما جعلني أغتاظ منها ، وفكرت في حيلة ماكرة فقلت لها :
ما رأيك أن نتبادل العرائس ؟ ولكنها رفضت .
فكرت في حيلة أكثر مكراً وقلت لها مرة أخرى : العروس جميلة ولكنها تحتاج إلى حمام ساخن لتكون أكثر جمالاً !
أخذت الفتاة العروسة المصنوعة من الحلوى إلى الحمام وكانت النتيجة المعروفة أنها ذابت ..
وجاء والدي وهي تبكي فاشترى لها عروسة جديدة ، وعلم ما يدور في نفسي فأخذني إلى حجرته وشرح لي سبب اهتمامه بجارتنا الصغيرة وتعلّمت من وقتها فضل اليتيم ، وسمعت منه لأول مرة حديث «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا» .
زارت دار الأيتام وفي الطريق أجهشت بالدموع ، حاولت تعزيتها فزاد نحيبها وأخيراً قالت : أنا أشعر باليتم أكثر منهم ، لقد سافر والديّ إلى دولة ما للعمل هناك ، ولا نراهم في العام إلا مرة واحدة ولا نعرف إلا الخادمة والمربية .
كم كنت أشتاق خلال عمري (عشرين سنة) إلى حضن أمي ، وإلى لمسة حانية من أبي ، لم أكن بحاجة إلى ” ممول ” ، إن اليتيم الذي لا يزال والده على قيد الحياة هو أحق بالرثاء ، ولله در شوقي إذ يقول :
لَيسَ اليَتيمُ مَنِ اِنتَهى أَبَواهُ مِن هَمِّ الحَياةِ وَخَلَّفاهُ ذَليلا
إِنَّ اليَتيمَ هُوَ الَّذي تَلقى لَهُ أُمّاً تَخَلَّت أَو أَباً مَشغولا
هذا بعض حديثهن عن اليتم!
1- تفاقم ظاهرة اليتم متصل بالاضطراب السياسي كما في حالة العراق (أكثر من ثلاثة ملايين) ، وفلسطين ، والصومال ، وأفغانستان ، وباكستان وليبيا وسوريا..
2- الخوف والرعب والضياع والعوز أصحبت سماتٍ لجيل ينشأ ، وسوف تكبر معه ، وتسهم في تشكيل مستقبله ، وتهيئته لأحداث يصعب التنبؤ بها ، كما أن الأحداث الأليمة التي عشناها ورأيناها كانت من صناعة أجيال سابقة عاشت ألواناً من الإحباط والفشل والهزيمة .
طفل عراقي (12 سنة) يتعاطى الماريجونا ويقول :
(يشعرني التعاطي بالأمان الذي افتقدته منذ رحيل أمي وأبي) .
وقد حذّرت منظمة اليونيسيف من انتشار الإدمان وتضاعف عدد الأيتام كل عام في العراق .
3- اليتم تاريخياً لم يكن مشكلة بحجم ما يحدث الآن بسبب تغير ظروف المجتمعات .
الأوزاعي كان يتيماً ، وعاش في لبنان ، وقال بعض الأئمة :
– الأوزاعي أدّب نفسه على حين عجزت الملوك عن تأديب أولادها .
الإمام أحمد
الإمام الشافعي
الإمام عبد القادر الجيلاني .. وغيرهم كثير
4- اليتم في اللغة : الانفراد ، ويطلق على من فقد أباه ، ومن فقد أمه فهو المنقطع ، ومن فقد أبويه فهو اللطيم .
أولى بوصف اليتم : فاقد الأبوين معاً ، فهو أشد حاجة للرعاية ممن فقد أباه فحسب .
وكذلك مجهول الأبوين ، لأنه أشد حاجة من اليتيم للمال والعطف ، وقد يرث اليتيم مالاً أو يكون له قرابة بخلاف مجهول الأبوين .
فالأجر والفضل الوارد في كفالة اليتيم ينطبق على كافل من لا يعرف والداه ، أو لا يعرف أبوه من باب أولى ، بل هو أشد ، وقد نصّ على ذلك المتقدمون من فقهاء الشافعية ، وهو في حواشي الشرواني وأسنى المطالب ، وهو مذهب الإمام أحمد ، واختيار ابن تيمية كما في الإنصاف والفروع ، واختاره الشيخ ابن باز ، وذلك لأن اليتم انكسار يدخل على القلب بفقد الأب ، وهذا المعنى موجود في المجهول الأبوين .
ويؤكد هذا المعنى أن الله تعالى قال عن اليتيم (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)(البقرة: من الآية220) ، وقال عن المجهول الأبوين (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)(الأحزاب: من الآية5) ، فجمع بينهم بوصف ” الإخوان ” ، وكأن الله أبدلهم بالنسب الديني والاجتماعي عن النسب الشخصي وذلك حين قال : (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) .
ويحسن اختيار التسمية اللائقة كـ ” مجهول الأبوين ” عوضاً عما يذكره بمصدر الألم والمعاناة والجزم بكونه من سفاح غير مبني على الدليل في حالات كثيرة ، فقد يكون الجهل بسبب مشكلات عائلية أو قبليّة أو زيجة فاشلة أو طلاق صعب أو سرقة أو فقر أو ما سوى ذلك من الأسباب .
وكذلك ” اللقيط ” فهو تذكير دائم بالبداية التي عرف الحياة من خلالها فيتذكر نفسه ملفوفاً في قماط أو موضوعاً في كرتون أو بقرب النفاية أو في زاوية طريق وخاصة بعد توسع العلم وانتشار الإعلام بحيث أن الشباب الذين هم مادة الحديث تبايعونه ويقرؤونه ويسمعونه فيجدر أن نراعي مشاعرهم ونتلطف في خطابهم ونفتح لهم الآفاق !
وأتذكر قصة جرت لإحدى بناتي ممن نشأن في دور الرعاية وكيف عاشت حالة نفسية صعبة لأنها استطاعت أن تنظر في ملفها والتقطت كلمة ” سفاح ” وسألت عنها ، فقال لها بعض الناس إن معنى السفاح نكاح المحارم فأصيبت بنكسة نفسية شديدة ، ولما اتصلت بي بيّنت لها أن السفاح لا يختص بالمحارم فهان الأمر قليلاً ، ثم قلت لها إن العادة أن الملف لا يكتب فيه السفاح هكذا ، وإنما يكتب عادة (من نكاح لا من سفاح) ولكنك التقطت بعض الكلمة وخطفتيها دون تركيز فاطمأن قلبها .
وينبغي إشاعة الأحكام الإيجابية والتي منها جواز إمامة المجهول دون كراهية ؛ وهو مذهب الحنابلة وعليه الدليل وبه قال عطاء والحسن والنخعي والزهري وعمرو بن دينار وإسحاق لحديث : « يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ .. » ، ولقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(الأنعام: من الآية164) .