

أ/ لبنى شرف
إن المسارعة في أعمال البر والخيرات سمة أصيلة وركيزة من ركائز المجتمع المسلم، ذلك المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن والمتكافل في الخير، الذي (يكفل لكل قادر عملًا ورزقًا، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، ويعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع، حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية).
والأصل في المجتمع المسلم أن يكون على هذه الصورة الوضيئة، فالإسلام ليس دين مظاهر وطقوس، وعبادات وشعائر جوفاء، ليس لها أثر في القلوب أو في واقع الحياة، ولكنه دين ما إن تستقر حقيقته في القلوب حتى تدفع إلى العمل الصالح، وتتمثل في سُلوك تصلح به الحياة وترقى.
وإن التعاون و التكافل في الخير والصلاح والنماء ليعود بالنفع والبركات على العباد والبلاد، من طهارة في القلوب، وتزكية للنفوس، ومنفعة وعون للآخرين، وشعور بالحب والإخاء، وإزالة للفوارق الشعورية، بحيث لا يشعر أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد، لا يحتجز عنه شيئًا، فتترابط فيه العرى، وتتوثق فيه الصلات، وتتمثل فيه رحمة الله السابغة بالعباد.
قال تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).. المعارج: 24،25، يقول سيد قطب: (وهي الزكاة على وجه التخصيص والصدقات المعلومة القدر، وهي حق في أموال المؤمنين .. أو لعل المعنى أشمل من هذا وأكبر، وهو أنهم يجعلون في أموالهم نصيبًا معلومًا يشعرون أنه حق للسائل و المحروم، وفي هذا تخلص من الشح واستعلاء على الحرص! كما أن فيه شعورًا بواجب الواجد تجاه المحروم، في هذه الأمة المتضامنة المتكافلة.. والسائل الذي يسأل، والمحروم الذي لا يسأل ولا يُعبر عن حاجته فيُحرم، أو لعله الذي نزلت به النوازل فحرم وعف عن السؤال.
والشعور بأن للمحتاجين والمحرومين حقًا في الأموال هو شعور بفضل الله من جهة، وبالأواصر الإنسانية من جهة أُخرى، فوق ما فيه من تحرر شعوري من ربقة الحرص والشح، وهو في الوقت ذاته ضمانة اجتماعية لتكافل الأمة كلها و تعاونها).
والإنفاق في سبيل الله وفعل الخير بجميع صوره مجاله واسع جدًا، ولا يقتصر على جُزئيات محددة، والجهات التي تُعني بالأعمال الخيرية لا بد لها من خطة منهجية مدروسة، أهدافها بعيدة المدى، أبعد من توفير الحاجات الآنية، بحيث تعين الفقراء القادرين على العمل والتكسب، حتى يستغنوا عن أخذ الصدقات، بل ربما يأتي يوم فيصبح بعضهم من ذوي الأموال، فيعطي من زكاة ماله بعد أن كان يأخذ، فالعطاء أكرم وأعز للنفس من الأخذ، وهذا يحتاج إلى تخطيط وتنظيم، وإلى تنسيق فيما بين المراكز والمؤسسات والجمعيات الخيرية حتى تتكامل أدوارها وتتنوع أنشطتها، لا أن تتكرر، فنحن بحاجة إلى تنويع العمل الخيري بل والابتكار فيه، حتى يشمل جميع الجوانب الحياتية والحاجات المادية والمعنوية، فهناك من يحتاج إلى بيت يؤويه.. بيت بسيط ولكنه يليق بحياة الإنسان، والبيت نعمة لا يُقدرها إلا من فقدها، كاللاجئين ومن يعيشون في المخيمات ومن ليس لهم مأوى أصلًا، فلو أن جهة أو أكثر تبنت هذا المشروع أو الوقف الخيري من أصحاب الأموال والأثرياء ورجال الأعمال والتجار وغيرهم، فأصحاب الأموال عبادتهم الأولى بعد أداء الفرائض الإنفاق في سبيل الله على أوجه الخير الكثيرة.
قيل لبشر: (إن فلانًا الغني كثير الصوم والصلاة! فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره، وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه مع جمعه للدنيا ومنعه الفقراء). وهذا فقه يحتاج كل مُسلم أن يفطن إليه، أن يعرف عبادته الأولى بعد أداء ما افترضه الله عليه.
بل إن الإنفاق في سبيل الله قد يكون مُقدمًا في بعض الأحيان على نوافل العبادات، من ذلك ما رُويَ: (أن رجلًا جاء يودع بشر بن الحارث،
وقال: عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال بشر: فكم أعددت للنفقة؟ فقال الرجل: ألفي درهم. فقال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهدًا أو اشتياقًا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال الرجل: ابتغاء مرضاة الله! قال بشر: فإن أصبت مرضاة الله وأنت في منزلك، وتنفق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله أتفعل ذلك؟ قال الرجل: نعم! قال بشر: اذهب فأعطها عشرة أنفس: مديون يقضي دينه، وفقير يَلُمُّ شَعثَه، ومُعيل يُغني عياله، ومُربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تُعطها واحد فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم، وإغاثة اللهفان، وكشف الضر، وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام ! ..) .
وقال ابن مسعود –رضي الله عنه-: (في آخر الزمان يكثر الحجاج بلا سبب، يهون عليهم السفر ويُبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه).
وبجانب المساكن والحاجات المادية الضرورية الأخرى، كاللباس والطعام والشراب والعلاج ..الخ، لابد من الاهتمام بالجوانب العقلية والنفسية والبدنية..، وكذلك بالتربية الإيمانية لهؤلاء الفقراء والمحتاجين للرعاية، وخاصة طلاب العلم منهم، فسد شواغل المعيشة ومتطلباتها يعين المسلم على التفرغ لدينه. فلا بد من توسيع أُفق العمل الخيري، بحيث يبني النفوس، وبالتالي يسهم بشكل فعال في بناء الأمة.
إن من أفضل وأرقى الوسائل في نشر الخير والإنفاق في سبيل الله الوقف الخيري الإسلامي الذي هو مظهر من مظاهر ازدهار الأمة وحضارتها الضاربة في التاريخ، فثمار الأوقاف الإسلامية عديدة، وآفاقها رحبة ومجال التفنن فيها واسع جدًا، ولا يقتصر على بناء المساجد فقط، على أهميتها كمراكز تعليمية لبث الروح الإسلامية في نفوس المسلمين، وإنما هناك وقف المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس والجامعات والكتب والمكتبات والأراضي والمزارع والبساتين، وغيرها الكثير والكثير مما يمكن وقفه لله تعالى، في المصالح العامة ومنافع العباد والبلاد .
وأمثلة الوقف الإسلامي كثيرة في تاريخ الدولة الإسلامية، منها مثلًا ما كان في القرن السادس الهجري، في عصر الدولة الزنكية في عهد نور الدين زنكي، فقد أوقف نور الدين أوقافًا كثيرة لذوي الحاجات والمساكين والفقراء والأرامل وما أشبه ذلك، ووقف لمن كان يعلم من اليتامى وجعل لهم نفقة وكسوة، وأوقف أوقافًا خاصة لسكان الحرمين حتى لا يبتزوا الحجاج، وبنى مئات المدارس والمساجد والمستشفيات، والفنادق الكثيرة في الطرقات. وكان نور الدين صاحب مهنة، يخيط الكوافي ويصنع سكاكر للأبواب، ويعطيها لبعض العجائز فتبيعها، ولا يدري به أحد!!.
وكذلك أوقفت زوجة نور الدين “الست خاتون عصمت الدين” أوقافًا كثيرة، وكذلك فعل رجال نور الدين، فقد أوقف وزيره أبو الفضل الشهرزوري أوقافًا كثيرة، منها ما أوقفه للمقادسة الذين نزحوا من وجه الاحتلال الصليبي . وكذلك فعل صلاح الدين، فقد مات ولم تجب عليه الزكاة قط، فقد استنفدت الصدقة أمواله كلها، ولقد أوقف وزيره القاضي الفاضل أراضٍ واسعة لتخليص أسرى المسلمين، وقال: (اللهم إنك تعلم أن هذا الربع ليس شيء أحب إلي منه، اللهم اشهد أني وقفته على فكاك الأسرى).
وقد انتشرت في عهد نور الدين مساكن للمسافرين والفقراء والزهاد، وألحق بها حمامات ومُستشفيات خاصة، ومرافق الغرباء، ولا سيما لحفاظ كتاب الله والمنتمين للطلب، فالغريب إن كان طالبًا وجد المدرسة التي تعلمه وتُؤويه، وإن كان صانعًا وجد الدكان الذي يعلمه الحرفة التي يُريدها .
وغير هذا الكثير والكثير، حتى أن البلاد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيها، وهذه من المفاخر المخلدة على مدى التاريخ .
فما أحوج المجتمعات الإسلامية للأوقاف في هذا العصر إلى أن تعم الرعاية والعناية جميع نواحي البلاد من المدن والقرى، وجميع ميادين الحياة فيها، وألا تقتصر المساجد والمستشفيات والمدارس… على جهة دون أُخرى، وأن ينفق أصحاب الأموال مما أعطاهم الله عز وجل، فالمال مال الله، جعله في أيديهم لمنافع العباد، فلا يحق لهم أن يحتجزوه دونهم، يقول عليه الصلاة والسلام: “إن لله أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم” [حسن- الألباني– السلسلة الصحيحة: 1692].
.