

د. أحمد الغريب
أثبتنا فيما مضى من مقالات الاحتمالات العقلية لتفسير انبثاق الكون وظهور الحياة, وتحدثنا عن الدليل الحاصر المستنبط من قول الله تعالى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وخلصنا إلى أن الاحتمالات ثلاثة لا رابع لها:
1- إما أن يكونوا خلقوا أنفسهم.
2- وإما أن يكونوا خلقوا من غير خالق.
3- وإما أن يكون هناك خالق غيرهم قد خلقهم وأوجدهم.
وكنا قد أبطلنا بالدليل الاحتمالين الأولين، فلم يبق إلا الاحتمال الثالث، وهو وجوب وجود كائن تكمن كينونته وقوة وجوده في ذاته, لا يستمدها من خالق غيره, وإلا لكان غيره هو الخالق.
قال الملحد بعد هذا: سلمنا بأن هناك خالقًا لهذا الكون وهو “الله”, إذن فمن خلق الله؟
وقد خصصت هذا المقال للإجابة عن هذا السؤال بإجابة شافية كافية, تقطع الشبهات وتزيل الالتباس وتقرر ما يقرره العقل ويصدقه النقل بإذن الله.
1- ثبت في صحيح مسلم من حديث ” أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْعِلْمِ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «لَيَسْأَلَنَّكُمُ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى يَقُولُوا: اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَهُ؟» وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَفْظُهُ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ»
فهذه الشبهة شبهة قديمة بقدم ظهور الإلحاد على هذه الأرض, ولنا وقفات مع هذا الحديث في آخر المقال, لكن المقصود هنا الإشارة إلى أن الملاحدة لم يأتوا بجديد بعدما تمخضت عقولهم فولّدت هذه الشبهة.
2- ولنرجع إلى حججنا العقلية في تفنيد هذه الشبهة, ولنقل:
أ- لا يمكن لنا أنا نتخيل أنه قبل انبثاق العالم كان العدم المحض هو السائد, وأنا حينما أذكر العدم المحض الكلي فإني أقصد به أنه لم يكن ثمة لا خالق ولا مخلوق, ولا قديم ولا حادث, ولا واجب ولا ممكن, بل لم يكن إلا العدم والعدم فقط, نعم يمكننا أن نتخيل هذا العدم في عقولنا وأذهاننا, فالعقل يمكنه تخيل المحالات كقدرته على تخيل اجتماع النقيضين كاجتماع الوجود والعدم, ووجود أثر من غير سبب وكتخيله لوضع قدر من الماء على النار فينتج عنه تجمد الماء, كل هذا يمكن أن يتخيله الذهن مع أنه لا وجود له في الواقع, وهذا ينطبق تماما على أن العدم المحض حيث لا يمكن تصوره إلا في الذهن لا خارج الذهن.
ب- فإن قال قائل: لماذا يستحيل أن يكون الأصل هو العدم ثم انبثق الوجود من رحم هذا العدم؟
فالجواب عليه أن قانون السببية يقرر هذه الاستحالة؛ إذ إن الانتقال من اللا وجود إلى الوجود يحتاج لسبب أو لعلة أو لصانع أو خالق أو أيًا ما سماه أصحابه, لكنه لا يمكن بحال أن يكون العدم أصلا مطردا ثم يفكر العدم الذي هو ليس بشيء في أن يصبح شيئا! إنه لو قال قائل: لقد رأيت طفلا صغيرا ينبت كما تنبت الشجرة, أو رأيت امرأة أنجبت حبة بطيخ, لأضحك الناس على عقله, وموجب الضحك والغرابة هنا أنه بالاستقراء قد عرفنا أن الأرض لا يمكنها أن تنبت أطفالا وأن البطيخ لا ينبته رحم امرأة, وأن سبب خروج البطيخ هو بذر الحب في الأرض, وسبب إنجاب الطفل هو بذر النطفة في الرحم, ثم لنرجع إلى مسألتنا لنقول:
إذا كنا قد أنكرنا انبثاق موجود من موجود آخر لا يمكن أن يكون سببا في وجوده, فكيف لنا أن نصدق بانبثاق الوجود بكماله من العدم المحض الذي ليس بشيء أصلًا.
ج- إذا قررنا أن العدم المحض لم يكن هو السائد وأنه لابد من وجود موجود أو كائن ينبثق عنه الوجود, فما المانع أن يكون هذا الموجود قد أوجده موجود قبله, وهذا الذي قبله أوجده موجود آخر قبله إلى ما لا نهاية في سلسلة لا تُعلم حلقتها الأولى، بل ليس لها حلقة أولى أصلا؟
إن هذا ما يسمى في كتب الفلسفة والكلام “التسلسل”, وقد اتفق جميع العقلاء على بطلانه, بل جعلوا بطلان تسلسل المؤثرين من المسلّمات العقلية والعلوم الفطرية البديهية التي يرجع إليها عند الاختلاف, ومعلوم أن هذه المبادئ الأولية الفطرية لا يمكن القدح فيها ولا الاستدلال عليها, فالقدح فيها قدح في موثوقية ومصداقية كل معرفة من المعارف, كما أنه لا يمكن الاستدلال عليها لأن الاستدلال إنما يكون عن نظر والنظري لا يمكن الاستدلال به على الضروري الفطري, إذ إن النظري ينبني في تقريره على الضروري، فكيف لنا أن نستدل للضروري بالنظري الذي لا يمكن إقامة براهينه إلا بالاعتماد على الضروري فنبقى في حلقة الدور المحال.
ومع هذا فنحن نحاول هنا تقريب حقيقة بطلان التسلسل للذهن، وإنما نبطل التسلسل لأن إبطاله هو عين الجواب على شبهة “من خلق الله”
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -بتصرف-:
“وذلك أن التسلسل في المؤثرات يقتضي أن لا يوجد شيء, فإنه إذا لم يكن يوجد هذا حتى يوجد شيء آخر ولا يوجد الشيء الآخر حتى يوجد شيء آخر، وهلم جرا فإنه يقتضي تقدير أشياء كلها حادثة بعد العدم مفتقرة إلى من يوجدها وليس فيها من يوجد شيئا بنفسه ولا موجود بنفسه.
فإن ما لا يوجد حتى يوجد ما لا يوجد ممتنع, وتقدير أمور كلها مفعولات ليس فيها غير مفعول، مع أنه ليس لها فاعل مباين لها ممتنع ضرورة وكثرة الممتنعات المفتقرات لا تقتضي إمكان شيء منها فضلا عن وجوده.
والفاعل لابد أن يكون حيا عالما قادرا مريدا فاعلا بنفسه فلا يجوز أن يقال لا يصير فاعلا لشيء حتى يجعله شيء آخر فاعلا وذلك الآخر لا يصير فاعلا حتى يجعله شيء آخر فاعلا إلى غير نهاية، بل لابد من إثبات فاعل بنفسه لم يجعله غيره، فهو مثل أن يقال لا يوجد حتى يوجد ولا يجوز أن يقال لا يفعل شيئا حتى يعلم ولا يعلم حتى يعلمه غيره وذلك الغير لا يعلم حتى يعلمه غيره إلى غير نهاية، بل لابد من عالم بنفسه ولا يجوز أن يقال لا يقدر حتى يقدره غيره وذلك الغير لا يقدر حتى يقدره غيره إلى غير نهاية بل لابد من قادر بنفسه”.
د- وإذا أردنا أن نوضح هذا النص المبطل للتسلسل فلنتخيل الآتي:
مخلوق (أ) لا يوجد حتى يوجده مخلوق (ب) و(ب) لا يوجد حتى يوجده مخلوق (ج) وهذا لا يوجد حتى يوجده قبله (د)، وهكذا إلى ما لا نهاية في الأزل, فما معنى هذا؟
معنى هذا ببساطة أنه لن يكون هناك مخلوق أصلا لأن سلسلة الخلق تمتد إلى ما لا نهاية, وإذا كانت ممتدة إلى ما لا نهاية فلن نصل إلى المخلوق الحالي الذي نراه, لأنه إما أن يكون هناك مخلوق أول لا يسبقه عدم ولم يوجده أحد, فحينئذ لا يكون مخلوقا بل خالقا, وإما ألا يكون هناك أولية لسلسلة الخلق، وقد افترضنا أنه لا يوجد مخلوق حتى يكون قبله مخلوق ومعنى ذلك أننا لن نصل إلى المخلوق الحالي لأننا افترضنا الأزلية وعدم الأولية في سلسلة الخلق, والأزل من اسمه أزل لا بداية له, والخلاصة أنه يلزم من القول بالتسلسل ألا يوجد مخلوق أصلا, وهذا مناقض للواقع فقد رأينا المخلوقات من حولنا وفي ذواتنا فيلزم من بطلان نتيجة التسلسل بطلان التسلسل, وإذا بطل التسلسل فقد أسقطنا هذه الشبهة التي تقول: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله, إذ يجب أن ترجع سلسلة الخلق إلى خالق قائم بنفسه لم يوجده غيره وهو أزلي قديم أول ليس قبله شيء سبحانه.
3- ثم نرجع مرة أخرى إلى الحديث الذي ذكرناه من قبل, وأن الناس لازالوا يسألون حتى يسألوا من خلق الله؟
أ- إن هذا الحديث فيه دلالة وعلامة من علامات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن هذه الشبهة قبل أن يوردها أصحابها ويصدعوا بها.
ب- قال في إكمال المعلم: “الذي يقال فى هذا المعنى: إن الخواطر على قسمين، فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تُدْفَع بالإعراض عنها، على هذا يحملُ الحديث، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرًا طارئًا على غير أصل دُفِع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له يُنَظرُ فيه، وأما الخواطر المستقرة التى أوجبتها الشبْهة فإنها لا تُدفَعُ إلا باستدلالٍ ونظر فى إبطالها” ثم مثل للشبهة التي تدفع بالاستدلال بحديث “لا عدوى ولا طيرة” وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن اعتقد تأثير العدوى: “فمن أعدى الأول؟”, وفي هذا الجملة دفع للتسلسل حيث إنه إذا ” كنت تقول إن هذه الجَربَة جَرَبَتْ من هذا العادي عليها، فهذا العادي ممَّن تعلَّق به الجرب؟ فإن قلت: من غيره ألزمناك فيه ما ألزمناك في الأول حتى يؤدي ذلك إلى ما لا يتناهى، أو يقف الأمر عند جملٍ وُجِدَ الجربُ فيه من غير أن ينتقل إليه من غيره، وإذا صحَّ وجود جربٍ من غير عدوى بل من الله -سبحانه- صح أن يكون جربُ هذه الإبل من نفسها لا من غيرها”
ت- والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قد أمر بالاستعاذة بالله لأن التسليم بوجود الخالق أمر ضروري, والإنسان إن ترك لنفسه العنان في الاسترسال في وساوس الشيطان فإنه إن سلِم من فتنته فلن يسلم من إضاعة الوقت, فإن الشيطان لا تنقضي وساوسه ولا شبهاته وإن كانت بينة البطلان في نفسها, وما من حق إلا ويمكن إيراد الشبهات عليه ولو ترك القلب كالإسفنجة لتلقي كل ما يلقيه الشيطان لفسد الدين, فمن هنا جاء الأمر بالاستعاذة وبقول: آمنت بالله وسوله، وهذا “من باب دفع الضد الضار بالضد النافع, فإن هذا القول إيمان، وذكر الله يدفع به ما يضاده من الوسوسة القادحة في العلوم الضرورية الفطرية”.
ــــــــــ
– البشرى