الشيخ عبدالعزيز بن محمد العقيل
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلمات والنور، وجعل لكل شيء نهايةً، أحمده سبحانه وأشكره، وأُثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم تسليمًا.
أما بعد:
فإن مَن يَسبر أحوال البشرية اليوم يرى التصادُم بينها، الناتج عن علم بالإسلام وحقْدٍ عليه، كحال اليهود المغضوب عليهم، أو عن جهْل به وضلال وعناد، كالنَّصارى أو دهريِّين وغيرهم ممن لا يَعرف الإسلام وتعاليمه السامية؛ فيُعاديه لجهْله وعناده، مع ما أصيبَ به معظم المسلمين – وخصوصًا مَن بيدهم الحَلُّ والعَقد – من تفريط في أوامره، وارتكاب لنواهيه، وذِلة أمام أعدائه، وتقاعُس عن نشْره على حقيقته، والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأخْذ العُدَّة لمن يقف أمام نشره، وإنقاذ البشرية مِن عبودية العِباد إلى عبادة الله وحده، وتبنِّي العلوم النافعة للبشرية، والحفاظ على خزائن الأرض وتوظيفها فيما يعود على البشر بالسعادة، وتجنيبه ما يضرُّه في دينه وبدنه وعِرضه وعقله وأخلاقه.
فالله – سبحانه وتعالى – خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، وتكفَّل بأرزاقهم، وأرسل الرسل مبشِّرين ومُنذِرين، وختمهم بنبينا محمد – صلوات الله وسلامه عليه – الذي ما ترك خيرًا إلا دلَّ أمَّته عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه، وترَكَنا على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يَزيغ عنها إلا هالك.
وقد سعدت البشرية بنبوَّته ورسالته السمحة السامية، وقضتْ على طغاة البشر ممَّن استعْبدوا العباد، وأفسدوا في البلاد، توالَت الفتوحات في حياته – صلوات الله وسلامه عليه – وحياة الخلفاء الراشدين مِن بعده ومَن بعدهم ممَّن نصر الله الإسلامَ على أيديهم، وانتشَر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعمَّ الأمن، ورغد العيش، حتى مَن بقي على دينه ولم يدخل في الإسلام، لم يتعرَّض له أحد بكيد ولا سوء، ودخل الناس في الإسلام أفواجًا؛ لِما وجدوا في أهله مِن مُعامَلة حسنة وصدْق، وإخلاص وعدل، وأخلاق فاضِلة حتى في الحروب بين المسلمين وأعدائهم، وكانت آلات الحروب بسيطةً لا تُهلِك حرثًا ولا نسلاً، وكان القتلى من الطرفين أعدادهم قليلةً، وكان البعض ممن يأسره المسلمون يُقاد إلى الجنة بالسلاسل؛ حيث يُسلِم بعد أسره.
تلك هي الحضارة الحقيقية المتَّفقة مع فِطَر البشر؛ فقد اتَّسعت، وكَثُرت العلوم وانتشر العمران، وفاضَت الأموال في أيدي العامة والخاصَّة، وخمَد الحقد والحسد، وحصَل التعاون بين أبناء البشر، وأخضعوا الماديات لمصالحهم، وسَعِد المسلمون في دُنياهم وأخراهم؛ حيث أخضعوا الدنيا للدِّين، واستعانوا بها على ما يُرضي الله – جل وعلا – ففازوا بالدارَين.
وبعد أن مضت القرون المفضَّلة، تقاعَس المسلمون عن أداء رسالتهم، وانغمَسوا في ملاذِّ الدنيا وشهواتها، التي شارَكهم فيها الكفار والحيوان من إشباع الفرج والبطن، وانخدَعوا بزخارف الدنيا الفانية، وتركوا الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته؛ أصابهم ذلٌّ أمام أعدائهم لا يَنزعه الله عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم؛ فإنهم أصحاب رسالة، عِزُّهم في إعزازها، ونبيُّنا – صلوات الله وسلامه عليه – يقول: (بلغوا عني ولو آية)، فأين الدعوة إلى الله – أيها المسلمون – في وقت تتخبَّط فيه معظم البشرية في ظلمات الجهل؟
لقد أصبَح البشر في هذه الحياة بين مُفسِد لأخلاقه كاليهود المغضوب عليهم، وبين جاهل وضالٍّ كالنصارى، وغيرهم ممن ضلَّ عن الصراط المستقيم، وبين ماديات أخضعت معظم البشر لطغاة البشر ممن استولى عليها وأنفقها على رغباته وأهوائه؛ حيث فقد العدل وأصبح الكيل بمكْيالَين.
فيا أمة الإسلام:
صحِّحوا علاقتكم مع الله وعلاقة بعضكم ببعض، ولا تكونوا شِيَعًا وأحزابًا؛ فبَين أيديكم كتابُ الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وما اختلفتم فيه فردُّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – واجتَمعوا على كلمة الحق، ولا تَفرَّقوا فتَفشلوا وتذهب ريحكم، وأعيدوا مجد أسلافكم، وخُذوا من العلوم الحاضرة ما يتَّفق مع صلاح البشر وفطرته السليمة، وأَبعِدوا عنه ما يضرُّه، ويُقلِق راحته، ويُفسِد أخلاقه؛ حتى تكونوا دعاةَ خير وصلاح، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا كما كان الحال في زمن أسلافكم، ففي ذلك عزُّكم ومجْدكم وسعادتكم في دنياكم وأخراكم، واعتراف لكم بالفضل حتى مِن أعدائكم المُنصِفين.
واعلموا أن الله ناصِرٌ دينه على أيدي مَن يَختارهم لذلك، فكونوا منهم، والله غني عن الجميع، ولكنْ يَبتلي عباده؛ ليظهر الصادق المستحق للنصر والثواب العاجِل والآجِل.
نرجو الله أن يَنصر دينه، ويُعلي كلمته، ويَكبِت أعداءه، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين