

د. بدر عبد الحميد هميسه
العاقل مطالب بداهة أن لا يضع نفسه دائماً موضع من يخطئ فيعتذر؛ ليس لأنه معصوم من الخطأ؛ بل لأنه يقدر لرجله قبل الخطو موضعها، ولكلامه قبل الوقوع مكانته. وكثرة الاعتذار دليل على قلة عقل صاحبه.
ولقد حذرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فقال فيما رواه: إسماعيل بن محمد عن أبيه عن جده، أن رجلا أتى إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أوصنى وأوجز؟ فقال: ” عليك باليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاتك وأنت مودع، وإياك وما يعتذر منه ” رواه الحاكم والبيهقي في الزهد، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
ولأن الإنسان ليس بمعصوم فقد يخطئ، ومن العقل حينئذٍ أن يبادر بالاعتذار، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وليس الاعتذار بنقيصة في حق صاحبه، بل هو رفعة وسمو أخلاق.
إن بعض الناس يظنون الاعتذار بعد الخطأ ضعفا، والإحسان بعد الإساءة مهانة وذلا، وهذا لعمري الحماقة بعينها. وكما قيل: الاعتراف يزول به الاقتراف، ولا عتب مع إقرار، ولا ذنب مع استغفار، والمعترف بالجريرة مستحق للغفيرة، هذا لمن أخطأ فاعتذر.
أما من يعتذر إليه، فالعفو والصفح منه واجب ولازم، قال – تعالى -: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة النور: آية: 22.
ولقد حذرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عدم قبول اعتذار من اعتذر، فقال فيما رواه عنه جابر بن عبدالله: ” من اعتذر إلى أخيه فلم يعذر، أولم يقبل عذره كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس ” وعن ابن عمر قال: ” تعافوا سقط الضغائن بينكم ” الهيثمي: مجمع الزوائد ج8 ص 81، 82.
وقال عمر بن الخطاب: ” لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سواءاً وأنت تجد لها في الخير محملا ” انظر: ابن كثير: تفسير العظيم ج4 ص 213 في تفسير قوله – تعالى -: ” لولا إذ سمعتموه ” سورة النور آية 12.
وقال محمد بن سيرين: ” إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا فإن لم تجد، فقل لعل له عذراً لا أعلمه “.
قال ابن المقفع: ” إذا اعتذر إليك معتذر فتلقه بوجه مشرق، وبشر، ولسان طلق ” ابن المقفع: الأدب الكبير ص 85.
فعلم نفسك أن لا تكثر من الخطأ، حتى لا تكثر من الاعتذار، وإذا ما حدث وأخطأت فبادر بالاعتذار ولا تؤجله، فإن الناس تقدر من يقدرهم، وتجل وتحترم من يجلهم ويحترمهم.
ولقد ضرب أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – مثلا رفيعا في سرعة الفيئة حين علم أن مسطح بن أثاثة الذي يأكل من نفقة أبي بكر كان قد شارك في اتهام ابنته السيدة عائشة بحديث الإفك، فأقسم أبو بكر ألا ينفق عليه، ونزل قوله – تعالى -: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فما أن سمع أبو بكر خاتمة الآية حتى صاح: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
قال الشافعي – رحمه الله -:
أحب مكارم الأخلاق جهدي *** وأكره أن أعيب وأن أعابـا
وأصفح عن سباب الناس حلما ***وشر الناس من يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تـهـيـبـــوه *** ومن حقر الرجال فلن يهابا
وقال أيضا:
لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ *** أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته *** أدفع الشر عنـي بالتحيـات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه *** كما أن قد حشى قلبي محبات
الناس داء ودواء الناس قربهم *** وفي اعتزالهم قطع المـودات
فإذا أسأت فأحسن، وإذا أذنبت فاستغفر؛ لعل عملك يشهد لك بالسرعة في طاعة الله، وإذا أخطأت في حق أحد فبادر بالاعتذار، واستحضر قول بعض الأئمة: لأن أكون ذنبا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل.