

د. سلمان بن فهد العودة
الحمد لله – تعالى -، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
الموضوع الذي أردتُ أن أحدثكم عنه، موضوعٌ خَطَر في بالي وأنا أتأمل آية من كتاب الله- تبارك وتعالى -: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين). فأنت ترى في هذه الآية المحكمة أن الله – سبحانه وتعالى – بين أن الشيطان يخوفنا من أوليائه، وأولياؤه هم اليهود والنصارى والكفار والمنافقون وأهل الضلال، ثم يقول الله – سبحانه وتعالى – (فلا تخافوهم) وهذا نهي يقتضي التحريم؛ لأن نواهي ربنا – تعالى – مبناها على التحريم، فما نهى عنه فهو حرام، وما أمر به فهو واجب، إلا إذا وجدت قرينة تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، أو تصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، والقرينة في الآية تدل على أن النهي للتحريم؛ لأن الله – سبحانه وتعالى – قال: (فلا تخافوهم وخافوني) فجعل خوفه – سبحانه – هو المطلوب (وخوف الله -تعالى- واجب) وجعل نقيض خوفه أن يخاف الإنسان من المخلوق، فكأن قلب الإنسان إن سكنه خوف الله زال عنه خوف المخلوق، وإن خلا من خوف الله -تعالى- أصبح الإنسان يخاف من كل شيء: يخاف من المخلوقات، ليس فقط من الشيطان وأوليائه بل يخاف من النجوم ويخاف من الأمطار ويخاف من العواصف ويخاف من البحار، ولذلك المشركون عبدوا آلهة شتى، عبدوا الشمس والحجر والقمر والأفلاك، لماذا عبدوها؟؛ لأنهم خافوها ولم يخافوا الله -عز وجل-. وأيضا ختم الله الآية بقوله: (إن كنتم مؤمنين). و (إن) هنا كما يقول العلماء شرطية. فجعل الله – تعالى – الخوف منه وعدم الخوف من المخلوقين -وخاصة الشيطان وأوليائه- جعل الله – تعالى – ذلك من مقتضيات الإيمان.
واليوم تفنن أعداء الإسلام في زرع الخوف في قلوب المسلمين، فيوجد على سبيل المثال أجهزة متخصصة لنشر الرعب بين الناس، ويوجد وسائل إعلام (كتب، مجلات، أشرطة، أشرطة فيديو) مخصصة لزرع المخاوف في نفوس الناس، وهذا يسمونه عندهم الردع، الردع الذي يولد الخوف عند الإنسان كي لا يقوم بأي عمل.
يعني مثلاً، لما تذهب إلى أي مكتبة في العالم تجد كتب يسمونها (الجاسوسية)، مئات الكتب بل آلاف، بعضها قصص وبعضها أخبار، وبعضها تحاليل، وبعضها مقالات، وبعضها مقابلات، وبعضها ذكريات، ثم تجد هناك أشياء أخرى -تمثيليات وأفلام وصور حية-.
هذه الأشياء جزء غير قليل منها أكاذيب عالمية دولية، يقصد من ورائها زرع الخوف عند الناس؛ لأنهم يقولون: من النجاح أن تمنع الإنسان من فعل الشيء قبل أن يفعله. بمعنى أنهم يعتمدون على مبدأ نشر مثل هذه المخاوف عند الناس.
حتى إنك تجد كثيرا من الناس في أنحاء العالم -العالم كله، والعالم الإسلامي أيضا جزء منه-، تجد الواحد منهم تتراقص الأشباح بين عينيه -لا تنطقوا إن الجدار له أذن. !!-.
يتخيل البعض –مثلاً- أن في بيته جهاز تصنت، وان إحساسه محسوب وأن كلماته معدودة وأنه مراقب في يقظته ومنامه.
وأنا أقول: نعم هذا كله صحيح، ولكن ممن هذه المراقبة؟؟ من الله (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، (إن كل نفس لما عليها حافظ)، (وإن عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون).. فهؤلاء ملائكة، زودهم الله -سبحانه وتعالى- بإمكانية أن يراقبوا الإنسان في كل شيء، وعلى كل حال، وأن يكتبوا ذلك.
والغريب أن تجد من الناس من لا يقيم وزنا للملائكة الكرام الكاتبين، ولا يقيم وزناً للرقيب العتيد الحاضر الموجود، ولا يقيم وزنا للصحائف التي يدونها الملكان، ويغفل عن ذلك كله، لكنه يقيم ألف وزن للمخلوقين، والمخلوقون لا يعرفون ماذا في القلب، ولا يعرفون ماذا في الصدر.
وكثير من الأشياء التي يعرفها عامة الناس قد لا يعرفها من يريد ويتقصد أن يعرفها، والإنسان مركب من الضعف والنقص والغفلة، ولذلك أنت أحيانا تخدم عدوك من حيث لا تدري، حينما تعطيه هذه المكانة وتغرس في قلبك هذا الخوف له، هذا الخوف يا أيها الإخوة، أثقل كواهل المسلمين.
رأيت في بلاد إسلامية بعيدة وقريبة، الواحد منهم لا يستطيع أن يصنع شيئا لدينه قط.. لماذا؟!.
لأنه مثقل بالأوهام والمخاوف.
سبحان الله! يا ليت خوفك من ربنا جل وتعالى، أو مراقبتك للملائكة عن يمينك وشمالك يكون كذلك.. إذاً لأقلعت عن الذنوب والمعاصي وفارقتها سراً وعلانية.. أما هذا الخوف من المخلوقين، فيخشى أن يكون قدحاً في التوحيد؛ لأنه أقعدك عن العمل الصالح، وأقعدك عن الطاعات، وسيّرك إلى أن تتشبه بغير المسلمين وبالفاسقين، وتتخلى عن سيما الإيمان وتتخلى عن العلم وتتخلى عن العمل في أوساط الناس، الخوف هو الذي قصم ظهرك وأذل عنقك.
من ماذا تخاف؟!.
أين سكينة المؤمنين؟!.
الرسول – عليه الصلاة والسلام – كتم أمر الهجرة -كما تعرفون-، وخرج ثاني اثنين إذ هما في الغار شريدا طريدا في مكة.
يا طريدا ملأ الدنيا اسمه *** وغدا لحنا على كل الشفاه
وغدت سيرته أنشودة *** يتلقاها رواةً عن رواة
نعم أخرجوه من مكة – صلى الله عليه وآله وسلم – كما قال الله – تعالى -: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار). يريدون رأسه – صلى الله عليه وسلم -، ويجعلون مائة من الإبل لمن أتى به حيا أو ميتا، بل أكثر من ذلك، فيقول لصاحبه: (لا تحزن إن الله معنا).
انظر لقوة القلب وشدة الخوف من الله، وانعدام الخوف من المخلوقين (لا تحزن إن الله معنا).
ألا تلاحظون أيها الأحبة: أن الرسول – عليه السلام – لم يقل لأبي بكر (لا تخف إن الله معنا)، بل قال: (لا تحزن إن الله معنا).
حتى أبو بكر لم يكن خائفا على نفسه، كان حزينا على ما آل إليه أمر هؤلاء القوم، وعلى دعوة الله – عز وجل -، وعلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولهذا عزاه النبي – عليه الصلاة والسلام – بقوله: (لا تحزن إن الله معنا).
فنحن منصورون لأننا نستمد قوتنا من الله القوي الحي القادر، أما هؤلاء فمشركون وثنيون مبتورون، ليس لهم تاريخ ولا مجد ولا حاضر ولا مستقبل، كما قال – تعالى – لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: (إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر* إن شانئك هو الأبتر). مبغضك، معاديك، محارب دينك، ودعوتك هو الأبتر الذي ليس له عَقِبٌ ولا تاريخ.. ولهذا تجد اسم الرسول – صلى الله عليه وسلم – على كل لسان.
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال المؤذن في الخمس أشهدُ
وشق له من اسمه كي يجله *** فذو العرش محمود وهذا محمدُ
لست أقول: المسلمون يعرفونه، بل حتى الكفار واليهود والنصارى وأمم الأرض كلها لا تجهل من هو محمد – صلى الله عليه وسلم -.. يعرفه أعداؤه وأصدقاؤه على السواء، وأشد الناس عداوة لن يستطيعوا أن ينالوا منه شيئا، ولا أن يقولوا فيه شيئاً – عليه الصلاة والسلام – إلا أن يكون إفكا وزورا وبهتانا.
لكن شانئه ومبغضه أبو لهب، أبو جهل لا أحد يعرف اسمه الذي سماه به أبوه، أو سمته به أمه، فنسخ الله – تعالى – ذكراهم وأبطل أمرهم، فما عاد يعرفهم ولا يفرح بقرابتهم أحد، فأحفادهم لا يمكن أن يفتخر واحد منهم بأنه ابن فلان أو عم فلان أو خال فلان… لِمَ؟!.
هذا لأن (إن شانئك هو الأبتر).
إذا هذه هي السكينة التي أنزلها الله -تعالى- على رسوله وعلى المؤمنين. أنزل السكينة عليه يوم الهجرة، وأنزل السكينة عليه يوم حنين، كما هو معروف من القصة والسورة. فأنزل الله – تعالى -السكينة على المؤمنين.. السكينة التي تجعلهم وهم يرون الموت الأحمر أمام عيونهم ويبصرون الرؤوس تتساقط وتنحدر في الأرض، وهذا الموقف لا يزعجهم ولا يخيفهم، في قلوبهم قوة الإيمان وشدة التوكل على الله العظيم و الثقة بالله – سبحانه وتعالى -.
تلك المرأة –مثلاً- التي في قصة الأخدود -وحديثه في صحيح مسلم- لما أقبلت ومعها صبيها لتلقي بنفسها وصبيها في النار، وهي ترى اللحم يحترق ويشوى بالنار، وتشم رائحة الشواء النفاذة في أنفها، وترى هذا اللحم الطري الغض كيف يتحول إلى فحم أسود محترق، ثم تقدم على ذلك، أقدمت بقوة إيمانها، أقبلت في السكينة التي جعلها الله -تعالى- في قلبها.. وهذا هو نفسه ما يواجهه الشهيد، وهو يقتل في سبيل الله، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن الشهيد لا يجد من ألم القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرصة -على أسوأ الأحوال قرصة عقرب-.
فانظر أن الله -تعالى- طلب منك الخطوة الأولى، ووعدك بأن يكون هناك توفيق وتأييد منه، وأن تكون طمأنينته وسكينته – سبحانه – هي الثمن الذي ينزل في قلبك، وهذا موجود عند جميع المصلحين والمؤمنين عبر التاريخ.
أتذكر في هذه المناسبة كيف أن ابن القيم -رحمه الله- يصف شيخه الإمام ابن تيمية فيقول: “إنه كان رابط الجأش، نأتيه وقد اشتدت منا المخاوف واهتزت القلوب، فما إن نراه حتى يزول الخوف عن قلوبنا وسري عنا، فإذا تكلم بنى بنيان الإيمان واليقين والتوكل في قلوبنا”.
سبحان الله! رأينا كيف أن هناك أمورا بسيطة ويسيرة وتافهة تكبر عند بعض ضعاف القلوب حتى تصبح كالجبل العظيم، وكيف أن هناك أمورا كبيرة وعظيمة في نظر جماهير الناس تصغر عند أهل الإيمان واليقين حتى تصبح لا شيء!.
وكما قيل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتى على قدر الكرام المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارها *** وتسهل في عين العظيم العظائم
الإنسان العظيم تصغر في عينه الأمور الكبيرة؛ لأنه يتجاوزها.
فالمؤمن -مثلاً- الذي آثر سلوك درب الشهادة في سبيل الله، ماذا يشكل بالنسبة له كون أحد آذاه أو سبه أو سخر منه، وهدده أو توعده أو ضربه، أو ضيق عليه، أو أخر رتبته أو أبعده أو أقصاه… إذا كان فعلا يريد الشهادة في سبيل الله، فما دون ذلك عنده كلها أمور سهلة يسيرة، ويتجاوزها.
المسلمون اليوم على وجه الخصوص قتلتهم الأوهام ودقت عظامهم، فليس عند المسلم قوة الشخصية، قوة الإيمان، قوة الثقة بالله، ثم قوة الثقة بنفسه، التأكد من سلامة خطواته، الاطمئنان إلى أنه منصور، الثقة بوعد الله – عز وجل -.
أرأيتم لو أن إنسانا يخاف من المرض، أليس هذا مرض بحد ذاته!؟.
بلى هو مرض، ربما ليس له دواء إلا دواء الإيمان بالله والتوكل عليه؛ لأنه ليس مرض عضوي يمكن أن يعالج، وإنما هو مرض نفسي عبارة عن أوهام.